أنها "الأنفلونزا الأسبانية" والتي بدأت في الانتشار في عام 1918 ميلادي
يقدر أنها أصابت ثلث سكان الكرة الأرضية (سكان الأرض كان بحدود 1.7 مليار نسمة)
بلغت الوفيات منها حوالي 20 مليونا وبعض المصادر تذكر مابين 50-75 مليون أنسان
يقول الدكتور محسن بن سليمان العطيات العطوي وهو يتذكر هذه الكارثة الوبائية الرهيبة أنه وحتى كتابة هذه السطور (فبراير 2018) لا يزال الكثير عن ملابساتها مجهولا وخصوصا ما يتعلق بجوانبها الطبية-الوبائية . قلت ولعل أفضل ما كتب عنها ووثق لها من جوانبها التاريخية هو كتاب "جائحة أمريكا المنسية - أنفلونزا 1918" لمؤلفه الفرد كروسبي* أستاذ التاريخ والجغرافيا في جامعة تكساس -أوستن والذي نشر عام 1974 وأعيد نشره في طبعة ثانية عام 2004
مقدمة علمية ضرورية:
هناك 3 أصناف رئيسية من الأنفلونزا صنفت حسب الأبجدية الأنجليزية (A) ، (B) ، (C).
صنفا (B) و (C) يصيبان البشر فقط وحيث لم تسجل أصابات بين الحيوانات أو الطيور أو الأحياء البحرية. لكن الأنفلونزا من صنف (A) تصيب الأنسان والحيوانات (خنازير وخيول وثديات أخرى) والأحياء البحرية (دلافين) والطيور (دواجن وبط) قلت وحيث يعمل البط تحديدا كخزان طبيعي لجميع سلالات الأنفلونزا (A) مما يعني أن الفيروس يصيب أمعاء الطائر دون التسبب له في أعراض لكن الطيور البرية اذا التقطت الفيروس فأنها وبمرور الوقت تسمح بتبادل المواد الوراثية للفيروس مما ينتج عنه سلالات من الفيروس قادرة على الأنتشار بين الثديات الداجنة والطيور المنزلية وحتى الأحياء البحرية .قلت ولاجدال أن جميع الأوبئة والجوائح العالمية خلال 100 عام الماضية كانت بسبب الأنفلونزا من صنف (A)
قلت أن البنية الوراثية (الجينومية) لفيروس الأنفلونزا A و دورة الحياة داخل الخلايا الحية تسمح له بالتطور وتبادل الجينات بسهولة والمعروف أن المادة الوراثية للفيروس تتكون من 8 أجزاء منفصلة من الحمض النووي الريبي RNA (رنا) وسمي نووي لأنه في نواة الفيروس يغلفه غشاء دهني وفي ذلك الغشاء تتوضع جزئيات بروتينية. ولكي يتكاثر الفيروس فأن عليه الأرتباط أولا بالخلية الحية حتى يتمكن من أقتحامها وحيث يسيطرعليها سيطرة كاملة ويدفعها إلى تصنيع نسخ إضافية من أجزاءه الثمانية ثم تجمع هذه القطع نفسها في فيروسات جديدة تنفذ من الخلية المصابة، لتنتقل إلى خلايا أخرى سليمة. ولأن أنتاج نسخ كثيرة من الحمض النووي للفيروس لا يخضع لآلية التدقيق والتحقق التي تضمن دقة نسخ RNA كما هو الحال في الخلايا السليمة فإن الأخطاء التي تؤدي إلى طفرات جديدة تكون كثيرة وشائعة في النسخ الفيروسية الجديدة . والأكثر من ذلك أنه إذا أصابت سلالتان مختلفتان من فيروسات الإنفلونزا الخلية نفسها ، يمكن أن تختلط شرائح الحمض النووي الريبي الخاصة بها بحرية هناك ، وتنتج فيروسات جديدة تحتوي على مزيج من الجينات من كلا الفيروسين الأصليين. كما أن "أعادة ترتيب" وصلات الفيروس الواحد وهي 8 أجزاء ينتج عنها ظهور سلالات جديدة ومتنوعة.
دخول فيروس الأنفلونزا وخروجه من الخلايا:
يتم تحديد فيروسات الإنفلونزا المنتشرة من الصنف (A) من خلال الإشارة إلى بروتينين مميزين على أسطحهما. أحدهما هو بروتين "التراص الدموي" وهو بروتين يتسبب في تراص كريات الدم الحمراء hemagglutinin وحتى الأن تم أكتشاف 15 نوعا من بروتين التراص الدموي في فيروس الأنفلونزا من صنف (A) ويرمز له مختصرا بحرف الهاء (H) والأسم الآخر لبروتين التراص الدموي هو "الأنزيم الحال لحمض اللعاب" (sialidase) وظيفته أحداث الألتصاق بالخلايا التي تحوي على سطحها كمية كبيرة من حمض اللعاب Sialic acid كما هو الحال في خلايا الجهاز التنفسي والجهازالهضمي (ثديات وطيور) وخلايا الجهاز العصبي ومن ثم تكسير حمض اللعاب (عن طريق هضمه) ليتمكن من الدخول فيها.قلت ان هذا البروتين تحديدا هو الذي يثير جهاز المناعة ومعظم لقاحات الأنفلونزا الموسمية تستهدف هذا البروتين
أما البروتين المميز الآخر فهو بروتين "نيروأمينديز" وهو بروتين فيه كمية كبيرة من السكر وهو ينتمي إلى طائفة المحللات (انزيمات) وأكتشف قبل نحو 80 عاما في اللعاب حيث سمي حينها بأنزيم اللعاب (سيلاديز) قلت وهو لا يعدو كونه حمض اللعاب Sialic acid) ولاحقا وجد في أنسجة الدماغ ومنها أخذ التسمية نيروأمينديز neuraminidase وتبين لاحقا أن هذا البروتين السكري موجود أيضا على سطح فيروس الانفلونزا حيث يعمل كمستقبل ويمكن الفيروس من الخروج من الخلايا المصابة ومن ثم البحث عن
خلايا سليمة قلت ويوجد حتى كتابة هذه السطور 9 أنواع منه ويرمز له مختصرا بحرف النون (N) وعليه فعند وصف سلالة من فيروس الانفلونزا من الصنف (A) فلا بد من التخصيص بأضافة رقم بروتين التراص الدموي (H) الخاص بهذه السلالة ومعه رقم بروتين النيروأمنيديز (N) ليعطى الأسم العلمي كاملا لتمييزها عن السلالات الأخرى لنفس الفيروس وعليه فإن سلالة الانفلونزا من صنف (A) والتي أجتاحت العالم 1918 أطلق عليها أسم "H1N1" . وفي عام 1968 ظهرت جائحة أنفلونزا من صنف (A) وتم تسميتها H3N2
بداية وباء الأنفلونزا الاسبانية (أصبح في أشهر قليلة جائحة عالمية):
من الثابت تاريخيا أن أول حالات الانفلونزا الاسبانية القاتلة سجلت في مقاطعة هاسكل في الغرب من ولاية كنساس الأمريكية حيث كانت تقيم هناك ثكنة عسكرية أمريكية في مخيم لتدريب الجنود لنقلهم لسلحات الحرب ووصف الدكتور لرونج ماينر عشرات الجنود يتساقطون سريعا في أنفلونزا شديدة وخاطفة وصفها بانها (أنفلونزا الثلاثة أيام) هكذا وصفها الدكتور ماينر وشدد أن ضحايها هم من الجنود "الشباب" وبالرغم من تبليغه الفوري للسلطات الصحية المحلية الا أنها تجاهلت تقريره!!.
كان لزاما أن يتحرك جنود هذه الثكنة الصغيرة إلى مخيم (فونستن) الشهير في ولاية كنساس والذي ضم قرابة 50 ألف جندي أمريكي أستعدادا للرحيل لمساعدة حلفاء الحرب (فرنسا وبريطانيا) لدعم صمودهما ضد القوات النازية بقيادة هتلر.ولا شك أن ظروف مخيم فونستن لم تكن ظروفا ملائمة حيث شهد المخيم تكدسا كبيرا للجنود الأمر الذي عجل بأتساع وسرعة أنتشار الأنفلونزا حيث تفشت في جميع معسكرات تدريب الجيش الأمريكي الضخمة وفي شهر واحد (معسكر ديفينز ، معسكر أبتون ، معسكر جرانت ،معسكر كودي ، مخيم فريمونت وصولا إلى مخيم لويس في واشنطن). وسنعلم لاحقا أن قرابة مليون وربع مليون جندي أمريكي عبرو بالبواخر الضخمة لدول الحلفاء ساهموا بنشر رقعة الوباء الذي لم يشهد التاريخ البشري بمثله.
يقول العطيات وبالرغم من تساقط ألوف الجنود صرعى في تلك المعسكرات والمخيمات العسكرية بسبب أنفلونزا سريعة خاطفة وقاتلة الا أن التعتيم كان ديدن القائمين عليها.
بعدما وضعت الحرب أوزارها تم الكشف عن عدد الوفيات من أنفلونزا الاسبانية في أمريكا وكانت الصدمة حيث بلغ عدد المتوفين 650 ألف أمريكي معظمهم من الجنود وماتوا قبل أن يصلوا إلى ميادين المعارك.
وصف الأنفلونزا من مظاهرها السريرية:
كانت الأنفلونزا الأسبانية شديدة للغاية ففي خلال 3 أيام تظهر أعراض الأنفلونزا الحادة من ارتفاع في درجة الحرارة مع سعال وسيلان أنفي والشعور بتعب عام وأعياء وبعد عدة أيام يبدأ الشعور بالتحسن التدريجي.
كانت الانفلونزا الاسبانية شديدة جدا بل وقاتلة في الفئة العمرية الشابة ( بين 15-35 سنة) وهذا بخلاف المعهود عن الانفلونزا الموسمية التي تتأثر بها كثيرا فئات اقطاب العمر (أعني بهما الأطفال والمسنين) ولعل من نافلة القول أن أول حالة أصابة بهذه الانلفونزا كانت لجندي أمريكي ظهرت عليه حمى شديدة وأعراض التهاب السحايا الحاد في غياب تام لأعراض الانفلونزا السالفة الذكر.
الموجودات التشريحية في المتوفين من الأنفلونزا الاسبانية:
قام الأطباء بفحص مئات الألوف من أجساد المتوفين من الأنفلونزا الأسبانية بحثا عن السبب الحقيقي للوفيات والتي جاءت في معظمها أنها كانت بسبب ألتهابات بكتيرية ثانوية أهما المكورات العنقودية المقيحة و المكورات العنقودية الذهبية والمستدمية النزلية قلت وهذه بكتريا تسبب التهابات رئوية تمهد الطريق لأحداها الاصابة القريبة بالأنفلونزا الموسمية حيث يتطور حال المريض ويسوء فبدلا من التعافي مما ظهر وكأنه نزلة زكام عادية إلى التهاب رئوي خطير يتسبب في الوفاة.
نسبة معتبرة من الوفيات لم تكن بسبب الألتهابات البكتيرية "المتوقعة" وانما بسبب نزوفات وتخثرات أصابت الرئة والشعب الهوائية وصولا للقصبة الهوائية أو بسبب أحتقان بالسوائل في الرئة (وذمة رئوية) وكان ذلك محصورا على الجهاز التنفسي .قلت وهذا لا يكون الا بسبب "فيروس رئوي".
وصف الأنفلونزا من سيرورتها الوبائية:
من الثابت أن الانفلونزا الاسبانية ظهرت على نحو فجائي في شتاء 1918 ولم يسبقها بعام أو حتى أعوام ما يمكن أن نسمية أنفلونزا موسمية "غير عادية" ومما ميز هذه الأنفلونزا أنه تنتشر بسرعة كسرعة أنتشار النار في الهشيم وبالرغم من القول أنها كانت تنتقل عن طريق الرذاذ المتطاير من الشخص المصاب (القطيرات الصغيرة) (droplets) الا أن سرعة أنتشارها يؤكد لي أنها كانت تنقل بالهواء (airborne)
السبب الحقيقي خلف الأنفلونزا الأسبانية -فيروس أم بكتريا:
حينما أنتشر الوباء أخذ الاطباء يبحثون عن سببه فمن قال بأن المسبب هو فيروس متحور من فيروسات الأنفلونزا الموسمية ورجح بعضهم أن المسبب لها بكتريالم تعرف بعد.
التتبع الوراثي الجيني لمسبب الأنفلونزا الاسبانية:
لحسن الحظ فان عددا لا بأس به من أنسجة رئوية لمرضى توفوا من الأنفلونزا الأسبانية لا تزال محفوظة في بعض المختبرات الطبية الأمريكية التابعة للمتحف العسكري الامريكي والذي يضم قرابة 3 مليون عينة لأمراض شتى كما أن قبورا لبعض من توفوا بسببها وخصوصا من الجنود الأمريكيين معلومة بل ونبش بعضها للحصول على بعض الرفات لأجراء تحاليل وراثية (جينية) وبدأ مشروع البحث عن سبب الأنفلونزاوالذي أمضى قرابة 9 أعوام من التقصي الوراثي حيث أستطاعت الباحثة الأمريكية (آن ريد)* وزملائها وبعد فحص قرابة 80 عينية رئوية من عزل اجزاء من فيروس انفلونزا 1918 تبين أنه ينتمي لأنفلونزا صنف (A) وأنه من سلالة (H1N1) وهي سلالة مطابقة جينيا للسلالة التي تصيب الخنازير (Swine) A/Sw/Iowa/30 لكن المصدر الحيواني (ثديات أو طيور) لتلك السلالة القاتلة ظل مجهولا وحتى كتابتي لهذه السطور.
هل كانت الأنفلونزا الأسبانية سلاحا "حيويا" جربته المانيا ضد الحلفاء؟
بالنسبة لي فهذه فرضية قائمة حتى يتم دحضها بالدليل القاطع والبرهان الساطع لعدة ملاحظات في سيرورة جائحة الأنلفونزا الأسبانية:
* أن أول الحالات واكثرها سجلت في أكبر ثكنة عسكرية لجمع الجنود من كافة أمريكا
* ظهور الجائحة على نحو فجائي.
* سرعة أنتشارها وسرعة التقاطها.
* سميت بأنفلونزا الثلاثة أيام ففي خلال 3 أيام تسقط المصاب بها.
* لم يسبقها انفلونزا موسمية "غير أعتيادية"
* كل المعطيات المتوفرة لدي تدل على أنها كانت تنتقل بواسطة "الهواء" الملوث (airborne) وليس من خلال سحابة الرذاذ العالقة (القطيرات الصغيرة) (droplets) أو الأسطح الملوثة برذاذ متطاير من الشخص المريض.
====================================
هوامش ومراجع : *سميت بالأنفلونزا لأسبانية لأن أسبانيا لم تكن طرفا في الحرب العالمية الأولى وعليه لم تخضع الصحف الأسبانية للرقابة فكانت تنشر تقارير متواترة عن حال الوباء وعدد الوفيات منه في حين منعت دول حلفاء الحرب (أمريكا و بريطانيا و فرنسا) صحفها عن نشر الوفيات منها مخافة التأثير في نفوس الجنود وأسرهم والرأي العام.
يقدر أنها أصابت ثلث سكان الكرة الأرضية (سكان الأرض كان بحدود 1.7 مليار نسمة)
بلغت الوفيات منها حوالي 20 مليونا وبعض المصادر تذكر مابين 50-75 مليون أنسان
يقول الدكتور محسن بن سليمان العطيات العطوي وهو يتذكر هذه الكارثة الوبائية الرهيبة أنه وحتى كتابة هذه السطور (فبراير 2018) لا يزال الكثير عن ملابساتها مجهولا وخصوصا ما يتعلق بجوانبها الطبية-الوبائية . قلت ولعل أفضل ما كتب عنها ووثق لها من جوانبها التاريخية هو كتاب "جائحة أمريكا المنسية - أنفلونزا 1918" لمؤلفه الفرد كروسبي* أستاذ التاريخ والجغرافيا في جامعة تكساس -أوستن والذي نشر عام 1974 وأعيد نشره في طبعة ثانية عام 2004
مقدمة علمية ضرورية:
هناك 3 أصناف رئيسية من الأنفلونزا صنفت حسب الأبجدية الأنجليزية (A) ، (B) ، (C).
صنفا (B) و (C) يصيبان البشر فقط وحيث لم تسجل أصابات بين الحيوانات أو الطيور أو الأحياء البحرية. لكن الأنفلونزا من صنف (A) تصيب الأنسان والحيوانات (خنازير وخيول وثديات أخرى) والأحياء البحرية (دلافين) والطيور (دواجن وبط) قلت وحيث يعمل البط تحديدا كخزان طبيعي لجميع سلالات الأنفلونزا (A) مما يعني أن الفيروس يصيب أمعاء الطائر دون التسبب له في أعراض لكن الطيور البرية اذا التقطت الفيروس فأنها وبمرور الوقت تسمح بتبادل المواد الوراثية للفيروس مما ينتج عنه سلالات من الفيروس قادرة على الأنتشار بين الثديات الداجنة والطيور المنزلية وحتى الأحياء البحرية .قلت ولاجدال أن جميع الأوبئة والجوائح العالمية خلال 100 عام الماضية كانت بسبب الأنفلونزا من صنف (A)
قلت أن البنية الوراثية (الجينومية) لفيروس الأنفلونزا A و دورة الحياة داخل الخلايا الحية تسمح له بالتطور وتبادل الجينات بسهولة والمعروف أن المادة الوراثية للفيروس تتكون من 8 أجزاء منفصلة من الحمض النووي الريبي RNA (رنا) وسمي نووي لأنه في نواة الفيروس يغلفه غشاء دهني وفي ذلك الغشاء تتوضع جزئيات بروتينية. ولكي يتكاثر الفيروس فأن عليه الأرتباط أولا بالخلية الحية حتى يتمكن من أقتحامها وحيث يسيطرعليها سيطرة كاملة ويدفعها إلى تصنيع نسخ إضافية من أجزاءه الثمانية ثم تجمع هذه القطع نفسها في فيروسات جديدة تنفذ من الخلية المصابة، لتنتقل إلى خلايا أخرى سليمة. ولأن أنتاج نسخ كثيرة من الحمض النووي للفيروس لا يخضع لآلية التدقيق والتحقق التي تضمن دقة نسخ RNA كما هو الحال في الخلايا السليمة فإن الأخطاء التي تؤدي إلى طفرات جديدة تكون كثيرة وشائعة في النسخ الفيروسية الجديدة . والأكثر من ذلك أنه إذا أصابت سلالتان مختلفتان من فيروسات الإنفلونزا الخلية نفسها ، يمكن أن تختلط شرائح الحمض النووي الريبي الخاصة بها بحرية هناك ، وتنتج فيروسات جديدة تحتوي على مزيج من الجينات من كلا الفيروسين الأصليين. كما أن "أعادة ترتيب" وصلات الفيروس الواحد وهي 8 أجزاء ينتج عنها ظهور سلالات جديدة ومتنوعة.
دخول فيروس الأنفلونزا وخروجه من الخلايا:
يتم تحديد فيروسات الإنفلونزا المنتشرة من الصنف (A) من خلال الإشارة إلى بروتينين مميزين على أسطحهما. أحدهما هو بروتين "التراص الدموي" وهو بروتين يتسبب في تراص كريات الدم الحمراء hemagglutinin وحتى الأن تم أكتشاف 15 نوعا من بروتين التراص الدموي في فيروس الأنفلونزا من صنف (A) ويرمز له مختصرا بحرف الهاء (H) والأسم الآخر لبروتين التراص الدموي هو "الأنزيم الحال لحمض اللعاب" (sialidase) وظيفته أحداث الألتصاق بالخلايا التي تحوي على سطحها كمية كبيرة من حمض اللعاب Sialic acid كما هو الحال في خلايا الجهاز التنفسي والجهازالهضمي (ثديات وطيور) وخلايا الجهاز العصبي ومن ثم تكسير حمض اللعاب (عن طريق هضمه) ليتمكن من الدخول فيها.قلت ان هذا البروتين تحديدا هو الذي يثير جهاز المناعة ومعظم لقاحات الأنفلونزا الموسمية تستهدف هذا البروتين
أما البروتين المميز الآخر فهو بروتين "نيروأمينديز" وهو بروتين فيه كمية كبيرة من السكر وهو ينتمي إلى طائفة المحللات (انزيمات) وأكتشف قبل نحو 80 عاما في اللعاب حيث سمي حينها بأنزيم اللعاب (سيلاديز) قلت وهو لا يعدو كونه حمض اللعاب Sialic acid) ولاحقا وجد في أنسجة الدماغ ومنها أخذ التسمية نيروأمينديز neuraminidase وتبين لاحقا أن هذا البروتين السكري موجود أيضا على سطح فيروس الانفلونزا حيث يعمل كمستقبل ويمكن الفيروس من الخروج من الخلايا المصابة ومن ثم البحث عن
خلايا سليمة قلت ويوجد حتى كتابة هذه السطور 9 أنواع منه ويرمز له مختصرا بحرف النون (N) وعليه فعند وصف سلالة من فيروس الانفلونزا من الصنف (A) فلا بد من التخصيص بأضافة رقم بروتين التراص الدموي (H) الخاص بهذه السلالة ومعه رقم بروتين النيروأمنيديز (N) ليعطى الأسم العلمي كاملا لتمييزها عن السلالات الأخرى لنفس الفيروس وعليه فإن سلالة الانفلونزا من صنف (A) والتي أجتاحت العالم 1918 أطلق عليها أسم "H1N1" . وفي عام 1968 ظهرت جائحة أنفلونزا من صنف (A) وتم تسميتها H3N2
بداية وباء الأنفلونزا الاسبانية (أصبح في أشهر قليلة جائحة عالمية):
من الثابت تاريخيا أن أول حالات الانفلونزا الاسبانية القاتلة سجلت في مقاطعة هاسكل في الغرب من ولاية كنساس الأمريكية حيث كانت تقيم هناك ثكنة عسكرية أمريكية في مخيم لتدريب الجنود لنقلهم لسلحات الحرب ووصف الدكتور لرونج ماينر عشرات الجنود يتساقطون سريعا في أنفلونزا شديدة وخاطفة وصفها بانها (أنفلونزا الثلاثة أيام) هكذا وصفها الدكتور ماينر وشدد أن ضحايها هم من الجنود "الشباب" وبالرغم من تبليغه الفوري للسلطات الصحية المحلية الا أنها تجاهلت تقريره!!.
كان لزاما أن يتحرك جنود هذه الثكنة الصغيرة إلى مخيم (فونستن) الشهير في ولاية كنساس والذي ضم قرابة 50 ألف جندي أمريكي أستعدادا للرحيل لمساعدة حلفاء الحرب (فرنسا وبريطانيا) لدعم صمودهما ضد القوات النازية بقيادة هتلر.ولا شك أن ظروف مخيم فونستن لم تكن ظروفا ملائمة حيث شهد المخيم تكدسا كبيرا للجنود الأمر الذي عجل بأتساع وسرعة أنتشار الأنفلونزا حيث تفشت في جميع معسكرات تدريب الجيش الأمريكي الضخمة وفي شهر واحد (معسكر ديفينز ، معسكر أبتون ، معسكر جرانت ،معسكر كودي ، مخيم فريمونت وصولا إلى مخيم لويس في واشنطن). وسنعلم لاحقا أن قرابة مليون وربع مليون جندي أمريكي عبرو بالبواخر الضخمة لدول الحلفاء ساهموا بنشر رقعة الوباء الذي لم يشهد التاريخ البشري بمثله.
يقول العطيات وبالرغم من تساقط ألوف الجنود صرعى في تلك المعسكرات والمخيمات العسكرية بسبب أنفلونزا سريعة خاطفة وقاتلة الا أن التعتيم كان ديدن القائمين عليها.
بعدما وضعت الحرب أوزارها تم الكشف عن عدد الوفيات من أنفلونزا الاسبانية في أمريكا وكانت الصدمة حيث بلغ عدد المتوفين 650 ألف أمريكي معظمهم من الجنود وماتوا قبل أن يصلوا إلى ميادين المعارك.
وصف الأنفلونزا من مظاهرها السريرية:
كانت الأنفلونزا الأسبانية شديدة للغاية ففي خلال 3 أيام تظهر أعراض الأنفلونزا الحادة من ارتفاع في درجة الحرارة مع سعال وسيلان أنفي والشعور بتعب عام وأعياء وبعد عدة أيام يبدأ الشعور بالتحسن التدريجي.
كانت الانفلونزا الاسبانية شديدة جدا بل وقاتلة في الفئة العمرية الشابة ( بين 15-35 سنة) وهذا بخلاف المعهود عن الانفلونزا الموسمية التي تتأثر بها كثيرا فئات اقطاب العمر (أعني بهما الأطفال والمسنين) ولعل من نافلة القول أن أول حالة أصابة بهذه الانلفونزا كانت لجندي أمريكي ظهرت عليه حمى شديدة وأعراض التهاب السحايا الحاد في غياب تام لأعراض الانفلونزا السالفة الذكر.
الموجودات التشريحية في المتوفين من الأنفلونزا الاسبانية:
قام الأطباء بفحص مئات الألوف من أجساد المتوفين من الأنفلونزا الأسبانية بحثا عن السبب الحقيقي للوفيات والتي جاءت في معظمها أنها كانت بسبب ألتهابات بكتيرية ثانوية أهما المكورات العنقودية المقيحة و المكورات العنقودية الذهبية والمستدمية النزلية قلت وهذه بكتريا تسبب التهابات رئوية تمهد الطريق لأحداها الاصابة القريبة بالأنفلونزا الموسمية حيث يتطور حال المريض ويسوء فبدلا من التعافي مما ظهر وكأنه نزلة زكام عادية إلى التهاب رئوي خطير يتسبب في الوفاة.
نسبة معتبرة من الوفيات لم تكن بسبب الألتهابات البكتيرية "المتوقعة" وانما بسبب نزوفات وتخثرات أصابت الرئة والشعب الهوائية وصولا للقصبة الهوائية أو بسبب أحتقان بالسوائل في الرئة (وذمة رئوية) وكان ذلك محصورا على الجهاز التنفسي .قلت وهذا لا يكون الا بسبب "فيروس رئوي".
وصف الأنفلونزا من سيرورتها الوبائية:
من الثابت أن الانفلونزا الاسبانية ظهرت على نحو فجائي في شتاء 1918 ولم يسبقها بعام أو حتى أعوام ما يمكن أن نسمية أنفلونزا موسمية "غير عادية" ومما ميز هذه الأنفلونزا أنه تنتشر بسرعة كسرعة أنتشار النار في الهشيم وبالرغم من القول أنها كانت تنتقل عن طريق الرذاذ المتطاير من الشخص المصاب (القطيرات الصغيرة) (droplets) الا أن سرعة أنتشارها يؤكد لي أنها كانت تنقل بالهواء (airborne)
السبب الحقيقي خلف الأنفلونزا الأسبانية -فيروس أم بكتريا:
حينما أنتشر الوباء أخذ الاطباء يبحثون عن سببه فمن قال بأن المسبب هو فيروس متحور من فيروسات الأنفلونزا الموسمية ورجح بعضهم أن المسبب لها بكتريالم تعرف بعد.
التتبع الوراثي الجيني لمسبب الأنفلونزا الاسبانية:
لحسن الحظ فان عددا لا بأس به من أنسجة رئوية لمرضى توفوا من الأنفلونزا الأسبانية لا تزال محفوظة في بعض المختبرات الطبية الأمريكية التابعة للمتحف العسكري الامريكي والذي يضم قرابة 3 مليون عينة لأمراض شتى كما أن قبورا لبعض من توفوا بسببها وخصوصا من الجنود الأمريكيين معلومة بل ونبش بعضها للحصول على بعض الرفات لأجراء تحاليل وراثية (جينية) وبدأ مشروع البحث عن سبب الأنفلونزاوالذي أمضى قرابة 9 أعوام من التقصي الوراثي حيث أستطاعت الباحثة الأمريكية (آن ريد)* وزملائها وبعد فحص قرابة 80 عينية رئوية من عزل اجزاء من فيروس انفلونزا 1918 تبين أنه ينتمي لأنفلونزا صنف (A) وأنه من سلالة (H1N1) وهي سلالة مطابقة جينيا للسلالة التي تصيب الخنازير (Swine) A/Sw/Iowa/30 لكن المصدر الحيواني (ثديات أو طيور) لتلك السلالة القاتلة ظل مجهولا وحتى كتابتي لهذه السطور.
هل كانت الأنفلونزا الأسبانية سلاحا "حيويا" جربته المانيا ضد الحلفاء؟
بالنسبة لي فهذه فرضية قائمة حتى يتم دحضها بالدليل القاطع والبرهان الساطع لعدة ملاحظات في سيرورة جائحة الأنلفونزا الأسبانية:
* أن أول الحالات واكثرها سجلت في أكبر ثكنة عسكرية لجمع الجنود من كافة أمريكا
* ظهور الجائحة على نحو فجائي.
* سرعة أنتشارها وسرعة التقاطها.
* سميت بأنفلونزا الثلاثة أيام ففي خلال 3 أيام تسقط المصاب بها.
* لم يسبقها انفلونزا موسمية "غير أعتيادية"
* كل المعطيات المتوفرة لدي تدل على أنها كانت تنتقل بواسطة "الهواء" الملوث (airborne) وليس من خلال سحابة الرذاذ العالقة (القطيرات الصغيرة) (droplets) أو الأسطح الملوثة برذاذ متطاير من الشخص المريض.
====================================
هوامش ومراجع : *سميت بالأنفلونزا لأسبانية لأن أسبانيا لم تكن طرفا في الحرب العالمية الأولى وعليه لم تخضع الصحف الأسبانية للرقابة فكانت تنشر تقارير متواترة عن حال الوباء وعدد الوفيات منه في حين منعت دول حلفاء الحرب (أمريكا و بريطانيا و فرنسا) صحفها عن نشر الوفيات منها مخافة التأثير في نفوس الجنود وأسرهم والرأي العام.
* الأستاذ (الفرد كروسبي) هو استاذ التاريخ والجغرافيا في جامعة تكساس -أوستن وهو استاذ متخصص في الدراسات الامريكية وصدر له عدة مؤلفات لعل أبرزها
رمي النار (كامبرج 2002) ، قياس الحقيقة (كامبرج 1997) ، الاستعمار المناخي (كامبرج 1986)
رمي النار (كامبرج 2002) ، قياس الحقيقة (كامبرج 1997) ، الاستعمار المناخي (كامبرج 1986)
*الباحثة (آن ريد) هي من قسم علم الأمراض الجزيئية ، قسم علم الأمراض الخلوية ، معهد علم الأمراض القوات المسلحة الأمريكية -واشنطن.
* Reid AH, Fanning TG, Janczewski TA, Lourens RM, Taubenberger JK. Novel origin of the 1918 pandemic influenza virus nucleoprotein gene. J Virol 2004;78:12462–12470.
*Reid AH, Taubenberger JK, Fanning TG. Evidence of an absence: the genetic origins of the 1918 pandemic influenza virus. Nat Rev Microbiol 2004;2:909–914.
* Reid AH, Fanning TG, Janczewski TA, Lourens RM, Taubenberger JK. Novel origin of the 1918 pandemic influenza virus nucleoprotein gene. J Virol 2004;78:12462–12470.
*Reid AH, Taubenberger JK, Fanning TG. Evidence of an absence: the genetic origins of the 1918 pandemic influenza virus. Nat Rev Microbiol 2004;2:909–914.